نفي الشعر عن القرآن
قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر عن القرآن وعن النبي ﷺ، فقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾، وقال في ذم الشعراء: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات. وقال: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾.
وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار – من قولهم: إنه شاعر، وإن هذا شعر – لا بد أن يكون محمولًا على أنهم نسبوه إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، لا أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة.
أو يكون محمولًا على ما كان يطلقه الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرقهم في المنطق، وإن كان ذلك الباب خارجًا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة.
أو يكون محمولًا على أنه أطلقه بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر، وهذا أبعد الاحتمالات.
فإن حُمِل على الوجهين الأولين، كان ما أطلقوه صحيحًا، وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره، وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه – في رأيهم – أقدر، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب.
فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرًا كثيرًا، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة، ومنه ما يزعمون أنه مصراع، كقول القائل:
قد قلت لما حاولوا سلوتي * هيهاتَ هيهاتَ لِما تُوعَدُون
ومما يزعمون أنه بيت، قوله: ﴿وجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾، قالوا: هو من بحر الرمل.
وقوله: ﴿مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾، كقول الشاعر من بحر الخفيف:
كل يوم بشمسه * وغدٌ مثل أمسه
وكقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، قالوا: هو من المتقارب.
وكقوله: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾، ويشبعون حركة الميم، فيزعمون أنه من الرجز.
وقد ذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعرًا، فقال:
وفتيةٍ في مجلسٍ وجوههم * ريحانُهم قد عَدِموا التثقيلا
(دانيةً عَليْهِمُ ظِلالُها * وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلا)
ومثل ذلك قوله عز وجل: ﴿وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾، زعموا أنه من الوافر.
وكقوله عز وجل: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾، ضمنه أبو نواس في شعره فقال:
وقرا مُعلناً ليصدعَ قلبي * والهوى يصدعُ الفؤاد السقيما
(أرأيت الذي يُكِذّبُ بالدين * فذاك الذي يدع اليتيما)
وكما ضمنه في قوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾، وزاد فيه حتى انتظم له الشعر.
وكما يزعمون في قوله: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾، ونحوه مما يرونه من البسيط أو الرجز.
والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها، من وجوه:
أولها: أن الفصحاء منهم حين أُورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعرًا، ولم يروه خارجًا عن أساليب كلامهم – لبادروا إلى معارضته، لأن الشعر مسخّر لهم، مسهَّل عليهم. فلما لم نرهم فعلوا ذلك، عُلم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئًا مما يقدّره الضعفاء في هذه الصنعة.
والرد على من جاء بعدهم: إن استدراك من يجئ الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان، وزعمه أنه ظفر بشعر في القرآن، مع أنه خفي على أولئك مع حاجتهم الشديدة للطعن فيه، لا يُعقل قبوله. فمن زعم أنه عرف ما جهلته قريش – وهم أهل البلاغة – فهو أحق بالجهل منهم.
وقد أجاب العلماء عن هذه الشبهة بجواب سديد، وهو أن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرًا، وأقلّ الشعر بيتان فصاعدًا، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.
وقالوا أيضًا: إن ما كان على وزن بيتين، إلا أنه يختلف وزنهما أو قافيتهما، فليس بشعر.
والجواب أيضًا: إن من قال إن الرجز ليس بشعر أصلًا – خاصة إذا كان مشطورًا أو منهوكًا – فقد نفى أن يكون ما يقاربه في قلة الأجزاء شعراً، وعلى هذا يسقط السؤال من أصله.
ثم قالوا: إن الشعر لا يُسمى شعرًا إلا إذا قُصد إليه قاصد، على الطريقة المعروفة، أما ما يتفق في كلام الإنسان دون قصد، فلا يعدّ شعرًا، ولو وافق أوزانه. وإلا لكان كل الناس شعراء، وهذا لا يصح.
فكل متكلم قد يمرّ في كلامه بعبارة توافق وزن الشعر، وهذا لا يرفعه إلى مقام الشاعر، كما لا يُسمى كل من نطق بحكمة فيلسوفًا، ولا من رتّل آية نبيًّا.
ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه: "أغلق الباب وائتني بالطعام"، فيقع كلامه على وزن بحر معروف، دون أن يكون له بذلك علم ولا قصد.
