الحديث السادس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: [قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم]: "إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي الإنَاءِ فاغْسِلُوه سَبْعًا أولَاهُن بالترَاب" .
وفي رواية: "إحْدَاهُن بِالتُّرَابِ".
وفي رواية: "فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ".
قوله: "إذا شرب": تقَدّم القَول على "إذا" في الثّاني من أوّل الكتاب، وعلى مُتعلّق المجرور.
والألِف واللام في "الكَلب" يحتمل أنْ تكُون للجنس في جميع الكلاب. ويحتمل أن تكُون للعَهد، وهي الكلاب غير المأذون في اتخاذها.
ويُروَى: "إِذَا وَلَغَ" بفَتْح "اللام"، وفيه لُغَة بكَسْرها.
واختُلف هَل الشّرب والولُوغ بمعنى؟
فقيل: "وَلَغ": "أدْخَل لسانه في الإناء ولحسه، شرب أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن"، بخلاف الشرب.
قَالَ في "الصّحاح": ليس شيء من الطير يلغ غير الذباب. وحكى أبو زيد: "وَلَغ الكَلبُ في شَرابنا"، و"بشرابنا" و"من شرابنا".
وقوله: "في الإناء": يتعلّق بـ "شرب" أو "ولغ"، وتقَدّم القول على "في" في الحديث الرابع.
و"الفاء" في قوله: "فاغسله" جَوابُ "إذا". والعَامِلُ في الظّرف فِعْله أو جَوابه على ما تقَدّم بيانه قَريبًا.
وقوله: "سبعًا": مصْدَر؛ لأنّه عَدد "غسلات"، وهي جمع "غسلة"، وعَدَدُ المصدر مَصدَر وقوله: "أولاهُن بالتراب": مُبتدأ، والخبر في المجرور، وإنما لم يظهر الإعراب في المبتدأ لأنه مقصُور، والإعرابُ يكون في التقدير من الأسماء فيما آخره "ألِف" وهو المقصور، وفيما أضَافه المتكلّم إلى نفسه، وفيما آخره "ياء" قبلها كَسرة في حالتي الرّفع والجر، وفيما عدا ذلك يكون لفظًا، ويلحق به نحو: "مسلميّ" رفعًا .
و"أولى" تأنيث "أوّل"، فهو أفعل التفضيل. ويجيء الكلام عليه مُستوفى في الحديث الثّاني من "باب القراءة في الصلاة".
والتقدير: "أولاهن غسلة بالتراب".
وجاء: "أولاهُن التراب" بإسْقَاط الخافِض. ومنه: "أمرتُك الخير" و"أمرتُك بالخير".قال ابنُ مالك: في الحديث: "كَان يَأمر الغَريمَ يُحبَس" ، أي: "بالغَريم أنْ يحبَس".
فإن قلت: لا يتمّ الاستدلال مع أمر؛ لأنه [لا يتعدّى] بالحرف وبنفسه.
قلتُ: فقد قال ابن مالك: جاء في الصحيح: "صَلاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْس وَعِشْرِين دَرَجَة" ، المراد: "بخمس"، لكنه أبقى العمل بعد الحذف، وهو قليلٌ. انتهى.
والمختارُ عندهم عند سقوط الخافض النصب، ومنه قولهم في إعراب:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1، 2]: أنّه في محلّ نصب بإسقاط حَرْف القَسَم .
والعَرَبُ تقول: "اللهَ لأفعلن" بالنصب.
ومما جَاء مجرورًا قولهم: "خَيرٍ" بالجر في جَوابِ مَن قَال: "كيف أصْبَحْت؟ ".
إذا ثبت ذلك: فالجُمْلة مِن المبتدأ والخبر في محلّ نصب صِفَة لـ "سبعًا"، فإنّ المراد: "مُبتدأة بالتراب".
قوله: "وفي رواية": تقَدّم أنّ حَرْف الجر مُتعَلّق بفِعْل محذُوف، أي: "جَاء في رواية"، ويكون " [إحْدَاهُن] (5) بالترَاب" الفَاعِل على الحكَاية والإسناد إلى اللفظ.
قوله: "وفي رِوَايةٍ: فاغْسِلُوه سَبْعًا": الإعرابُ كالذي قبله. و"الفاء" في "فاغسِلُوه" جَوابُ للشرط المقَدّر.
وفي رواية: "إذا وَلَغ الكَلبُ فاغسِلُوه".
وقوله: "وعَفّروه": الفِعلُ في "عَفر" مخففًا: "يَعفِر عفرًا"، ومن (عفَّر): "يعفِّر تعفيرًا".
وقوله: "الثامنة": أي: "في الثامنة"؛ فيجيء فيه ما تقَدّم من تقدير الخَافِض، ويجوز أن تكُون "الثّامنة، بَدَلًا من الضّمير، أي: "عَفّروه الثّامنة بالتراب".
فإن قُلت: لو قَال: "وعفّروه الثّامنة" لعُلم أنّه بالتراب؛ لأنه لا يكون التعفير إلا به.
والجوابُ: أنّ "عفر" تضَمّن معنى فِعْل آخَر، وهو الخَلْط، أي: "اخلطوا الغَسْلة الثامنة بالتراب"؛ فلو لم يأت التركيب هكذا لتوهّم أنّ "التعفير" بغير خَلط بالماء.
وقد أضَاف ابن دُريد "العَفر" إلى "التراب" في قوله:
هُمُ الأُلَى إنْ فَاخَرُوا قَالَ الْعُلَى … بفي امرئ فآخركم عَفْرُ الْبَرَى
فأضاف "العَفر" إلى "البرا"، و"البرا": "التراب"، والشيء لا يُضَاف إلى نفسه، لكنه لما كان "العفر": "تراب يخالط لونه غيره"، فتجب الإضافة؛ لأنه أخَصّ من "البرا".
واعلم أنّ "الثّامنة" في الحديث صِفَة لمحذُوف تقديره: "الغَسْلَة الثّامنة"، وهو [هنا] اسم الفَاعِل من فعله، وهو "ثمن"، كـ"خامس" "خمس"، و"رابع" من "ربع"، ولذلك يجب أن يُذكَّر مع المذكّر، ويُؤَنّث مع المؤنّث.
إذا ثبت ذلك: فلك في استعماله ثلاثة أوْجُه: -
أحدها: إفراده وتجريده، فتقُول: "ثاني"، "ثالث"، "ثان".
الثاني: أن تستعمله مع أصله ليُفيد أنّ الموصوف به بعض العَدد؛ فتقول: "خامس خمسة"، "ثامن ثانية"، أي: "بعض المعدود". ويجب إضافته إلى أصله، قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40].
الثالث: أن يضاف إلى ما هو دون أصله ليفيد معنى التصيير؛ فتقول: "هذا رابع ثلاثة"، أي: "جاعل الثلاثة أربعة"، وكذلك: "ثامن سبعة"، أي: "مصير السبعة ثمانية"، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، ويجوز حينئذٍ إضافته وإعماله.
كما يجوز الوجهان في جاعل ومُصيّر، فيقرر بذلك أن أصل "ثامن": "ثمانية" إن كان فعله "ثمن".
ولفظ "ثمان" من الأسماء المنقوصة، آخره "ياء"، قبلها كسرة، وقد تكرّر ذلك في الأحاديث وفي كلام العرب، ووقع منه في تركيب الكلام ما يخالف أصله وبناءه.
قال في "الصّحاح": هو في الأصل منسوبٌ إلى "الثمن"؛ لأنه الجزء الذي صَيّر السبعة "ثمانية"؛ فهو ثُمنها، ثم فتحوا أوّله؛ لأنهم يغيرون في ياء النسب -كما قالوا: "دهريّ" و"سهليّ" بالضم- ثم حذفوا منه إحْدى ياءَي النّسَب، وعوضوا منها "الألِف"، كما فعلوا في المنسوب إلى "اليمن".
قلتُ: يريد أنّ الأصل أن يُقال: "ثمني" كـ"يمني"، فلما حذفت إحدى الياءين عُوض منها "الألِف"؛ فقيل: "ثماني" كـ"يماني"، فصار في حكم المنقوص الذي آخره "ياء" قبلها كسرة، وتسقط "الياء" مع التنوين -كما تسقط مع تنوين "قاضٍ"- وتثبت في حال النصب، كالمنقوص؛ فتقول: "رأيت ثماني رجَال". وليس هو كـ"جوارٍ" جمع "جارية"؛ لأنه لا ينصرف، فالتنوين فيه تنوين عوضٍ، والتنوين هنا تنوين صرف.
قال في "الصّحاح": وأمّا قول الشّاعر:
ولقد شرِبْتُ ثَمانِيًا وثَمانِيا … وثمانَ عَشْرَةَ واثْنتَيْنِ وأربَعَا
فكان حقه أن يقول: "ثماني عشرة"، وإنّما حذفت "الياء" على لُغة مَن يقول: "طوال الأيد".
قلت: ووقَع في الحديث من حديث أبي برزة رضي الله عنه قال: "غَزَوْتُ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أو ثَمَانِيَ" بإثبات "الياء"، وهو مُشكِل على هذه القاعدة؛ لأنّ الواجبَ أن يقول: "أو ثمانيًا" بالتنوين.
قال ابنُ مالك: يتخرّج في ذلك ثلاثة أوْجُه: -
أحدها: وهو أجْوَدها أن يكون أراد: "أو ثماني غزوات"، ثم حذف المضاف إليه، وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف، لدلالة ما تقَدّم من مثل المحذُوف، وهَذا من الاستدلال بالمتقَدّم على المتأخّر، وهو في غير الإضافة كثير، كقوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35].
الوجه الثاني: أن تكون الإضافة غير مقصُودة، وترك التنوين لمشابهة "جوارٍ" لفظًا ومعنى. أمّا اللفظ: فظاهر. وأمّا المعنى: فلأن "ثمانٍ" وإن لم يكن له واحد من لفظه فإنّ مدلوله جمع، وقد اعتبر مجرد الشبه اللفظي في "سراويل"، فأُجريَ مجرَى "سرابيل"؛ فلا يستبعد إجراء "ثمان" مجرى "جوارٍ".
الوجه الثالث: أن يكون في اللفظ "ثمانيًا" بالنصب والتنوين، إلا [أنه] كُتب على اللغة [الربيعية]، فإنهم يقفون على المنوّن المنصُوب بالسكُون؛ فلا يحتاج الكاتب على لُغتهم إلى "ألِف"؛ لأنّ مَن أثبتها في الكتابة لم يُراع إلا جانب الوقْف، فإذا كان يحذفها في الوقف لزمه أن يحذفها خَطًّا.
وقد قيل ذلك في قوله: "إنّ الله حَرّم عليكم عُقوق الأمّهات ووَأد البنَات ومَنَع وهَات"، أي: "ومنعًا" بحذف "الألِف"؛ لما ذكرت لك.