وقفة بيانية مع آية من سورة الأعراف

قال تعالى: "‌وَأَوۡرَثۡنَا ‌ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ ١٣٧ " الأعراف



https://almosleh.com/ar/12622

     إن أسلوب القرآن الكريم أسلوب فريد في نظمه، وفي سمو معانيه، وإعجازه مما جعل العرب الأقحاح أرباب اللغة، جعلهم عاجزين عن أن يأتوا بآية من مثله، وهو الذي نزل بلسانهم وما تجاوز كلماتهم العربية إلى أخرى أعجمية يستعصي عليهم فهمها، ونحن اليوم أمام هذا الإعجاز البلاغي في آيات من سورة الأعرف. 

    الإخبار بالفعل أورثنا يدل على الأحقية في الامتلاك، لأن الوارث يمتلك ما هو حق له، بخلاف التمليك، كما أن فيه دوام امتلاك، وهذه الأحقية تجلت في قوله تعالى:" إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده"، ومما يؤكد تلك الأحقية التقديم في قوله تعالى:" وأورثنا القوم ..." فإن ذلك يدل على التخصيص.
وإسناد الفعل إلى نا الفاعلين الذي يدل على التعظيم لأن المقام مقام غلبة للمؤمنين، وقهر وإذلال لفرعون وجنوده.

ترى أن الله سبحانه يذكر ذاته في الخير العام وينسبه إلى نفسه، بخلاف الشر والسوء.

فبنى القول للمجهول في الأعراف ولم يظهر الرب نفسه لأنهم هنا لا يستحقون هذا التشريف

  ولا شك أن زيادة المبنى في الكلمة تقود إلى زيادة المعنى، ونلحظ ذلك جليا في الفعل " يستضعفون "

قال ابن عاشور:" وَمَعْنَى يُسْتَضْعَفُونَ: يُسْتَعْبَدُونَ وَيُهَانُونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ مِثْلَ اسْتَنْجَبَ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي اسْتَجَابَ" أ.هـ[1]

  وفي ذكر الفعل الماضي " كانوا " والفعل المضارع " يستضعفون " لطيفة أخرى ذكرها أبو السعود في تفسيره، إذا قال:" والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الاستضعافِ وتجدّدِه" أ.هـ[2]

    كما أننا نجد الطباق بين " مشارق ومغارب " الذي يشحذ الذهن لاستحضار الصورة بالعموم والشمول، ويعطي الكلام حسنًا، ويوسّع نطاق المعرفة في التعليم، ومن ثم القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وبضدها تتمايز الأشياء.

قال الميداني:" العنصر الجمالي في الطباق هو ما فيه من التلاؤم بينه وبين تداعي الأفكار في الأذهان "أ.هـ[3]

   وكما نعلم من علم البلاغة أن باب الوصل والفصل من أدق أبوابها وأعلاها شأنا، وقد وصل بين جملة

(تَمَّتۡ كَلِمَتُ) وجملة (أَوۡرَثۡنَا) لكونهما خبرا، وتعد الثانية بيانا للأولى. قال ابن عاشور:" وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَشْمَلُ

إِيرَاثَهُمُ الْأَرْضَ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَتَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إِلَى آخِرِهَا مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ الَّذِي لَا يُعْطَفُ، فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ هُوَ قَوْلُهُ بِما صَبَرُوا." أ. هـ[4]

  وكذلك وصل جملة " وَدَمَّرۡنَا " بما سبقها لكونها تشترك معها في الخبرية، والمحل الإعرابي، وليس هناك سبب للفصل، وبين الجملتين تناسب؛ إذ المسند إليه هو الله تعالى، كما أن الفصل سيؤدي إلى الإخلال بالمعنى، وعدم الترابط بين الجمل.

   كما أن في الآية بيانا تقييدا بالمفعول به، مما أفاد زيادة الفائدة بزيادة عناصرها، وفي ذكر المفعول به" مشارق الأرض ومغاربها " قرع للآذان، لأنه أمر غريب؛ إذا كان بنو إسرائيل مستضعفين، ومشردين هاربين من فروع؛ فلا أرض لهم ولا وطن.



[1] الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير جـ9 صـ 76

[2] تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. جـ 3 صـ 266

[3] عبد الرحمن الميداني. البلاغة العربية، أسسها وعلومها وفنونها. جـ 2. صــ 378

[4] التحرير والتنوير. مرجع سابق جـ 9 صـ 77 

<script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6492403081537639"

     crossorigin="anonymous"></script>

إرسال تعليق